كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال سعيد بن جبير: تمثل له يعقوب فضربه في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل: صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له رئيس فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها: {وإن عليكم لحافظين كرامًا كاتبين}: [الإنفطار: 11، 12] فلم ينصرف ثم رأى فيها: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلًا} [الإسراء: 32] فلم ينته ثم رأى فيها: {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبرائيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة. فانحط لجبرائيل وهو يقول: يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في يوان زمرة الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيز. وأما الآخرون فما سلموا شيئًا من هذه الروايات. وعلى تقدير التسليم فتوارد الدلائل على المطلوب الواحد غير بعيد وكذا ترادف الزواجر فهو عليه وجوب اجتناب المحارم وبحسب ما أعطاه الله من النفس القدسية المطهرة النبوية، لكنه انضاف إلى ذلك البرهان هذ الزواجر تكميلًا للألطاف وتتميمًا للعناية. قالوا: ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم إذا لقي ما لقي به نبي الله مما ذكروا لما بقي منه عرق ينبض وعضو يتحرك فكيف احتاج النبي إلى جميع هذه الزواجر والمؤكدات حتى ينتهي عن إمضاء العزمة. قالوا: والهم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق بالمعاني، فأنتم تضمرون أنه قد هم بمخالطتها ونحن نقول هم بدفعها لولا أن عرف برهان ربه وهو أن الشاهد سيشهد له أنه كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلعله لو اشتغل بأن يدفعها أمكن أن يتمزق قميصه من قبل فكانت الشهادة عليه لا له فلذلك ولى هاربًا عنها. وفي قوله: {وهمّ بها} فائدة أخرى هي أن ترك المخالطة بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعوز قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، وكيف يظن بيوسف معصية وقد ادعى البراءة بقوله: {هي راودتني} وبقوله: {رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} والمرأة اعترفت بذلك حين قالت للنسوة: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} وقالت: {الآن حصحص الحق} وزوج المرأة صدّقه فقال: {إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} وشهد له شاهد من أهلها كما يجيء وشهد له الله تعالى فقال: {كذلك} أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو الأمر مثل ذلك: {لنصرف عنه السوء} خيانة السيد: {والفحشاء} الزنا أو السوء مقدمات الجماع من القبلة والنظر بشهوة ونحو ذلك. ثم أكد الشهادة بقوله: {إنه من عبادنا} والإضافة للتشريف كقوله: {وعباد الرحمن} [الفرقان: 63] ثم زاد في التأكيد فوصفه بالمخلصين أي هو من جملة من اتصف في طاعاته بصفة الإخلاص، أو من جملة من أخلصه الله تعالى بناء على قراءتي فتح اللام وكسرها.
ويحتمل أن يكون: {من} للابتداء لا للتبعيض أي هو ناشئ منهم لأنه من ذرية إبراهيم عليه السلام. فكل هذه الدلائل تدل على عصمة يوسف عليه السلام وأنه بريء من الذنب، ولو كان قد وجدت منه زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما في آدم وذي النون وغيرهما ولما استحق هذا الثناء والله أعلم بحقائق الأمور.
وقوله: {واستبقا الباب} أي تسابقا إليه على حذف الجار وإيصال الفعل مثل: {واختار موسى قومه} [الأعراف: 155] أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا. وإنما وحد الباب لأنه أراد الداني لا جميع الأبواب التي غلقتها. روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب: {وقدت قميصه من دبر} لأنها اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق طولًا: {وألفيا سيدها} صادفا بعلها وهو قطفير. وإنما لم يقل سيدهما لأن ملك يوسف لم يكن ملكًا في الحقيقة. روي أنهما ألفياه مقبلًا يريد أن يدخل وقيل جالسًا مع ابن عم للمرأة. ثم إنه كان للسائل أن يسأل فما قالت المرأة إذا ذاك؟ فقيل: قالت: {ما جزاء} هي استفهامية أو نافية معناه أي شيء جزاؤه، أو ليس جزاءه إلا السجن أو العذاب الأليم. وربما فسر العذاب: الأليم بالضرب بالسياط جمعت بين غرضين تنزيه ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف وتخويفه طمعًا في أن يواتيها خوفًا وإن لم يواتيها طوعًا. ثم إنها لحبها يوسف راعت دقائق المحبة فذكرت السجن أوّلًا ثم العذاب لأن المحب لا يريد ألم المحبوب ما أمكن. وأيضًا لم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوءًا بل قصدت العموم ليندرج يوسف فيه. وفي قولها: {إلا أن يسجن} إشعار بأن ذلك السجن غير دائم بخلاف قول فرعون لموسى: {لأجعلنك من المسجونين} [الشعراء: 29] ففيه إشعار بالتأييد: {قال} يوسف: {هي راودتني عن نفسي} وإنما صرح بذلك لأنها عرضته للسجن والعذاب فوجب عليه الدفع عن نفسه ولولا ذلك لكتم عليها. قال سبحانه: {وشهد شاهد من أهلها} قال جمع من المفسرين: الشاهد ابن عم المرأة وكان رجلًا حكيمًا، اتفق في ذلك الوقت أنه كان مع العزيز فقال: قد سمعت الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدام فأنت صادقة والرجل كاذب، وإن كان من خلف فالرجل صادق وأنت كاذبة، فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه قال ابن عمها: {إنه من كيدكن} وعن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك أن الشاهد ابن خال لها وكان صبيًا في المهد وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» وعن مجاهد: الشاهد هو القميص المشقوق من خلف وضعف بأن القميص لا يوصف بالشهادة ولا بكونه من الأهل، واعترض على القول الأول بأن العلامة المذكورة لا تدل قطعًا على براءة يوسف لاحتمال أن الرجل قصد المرأة وهي قد غضب عليه ففر فعدت خلفه كي تدركه وتضربه ضربًا وجيعًا. وأجيب بأن هناك أمارات أخر منها أن يوسف كان عبدًا لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد، ومنها قرينة الحال كتزين المرأة فوق المعتاد وما شوهد من أحوال يوسف في مدة إقامته بمنزلهم. واعترض على القول الثاني بأن شهادة الصبي أمر خارق للعادة فتكون حجة قطعية فلم يبق للاستدلال بحال القميص ولا لكونه من أهلها فائدة. وأيضًا لفظ: {شاهد} لا يقع في العرف إلا على من تقدمت معرفته بالواقعة. والجواب أن تعيين الطريق في الإخبار والإعلام غير لازم، وكون الشاهد من أهلها أوجب للحجة عليها وألزم لها والشاهد هاهنا مجاز ووجه حسنه أنه أدى مؤدى الشاهد حيث ثبت به قول يوسف وبطل قولها. قال في الكشاف: التنكير في {قبل}. و{دبر} معناه من جهة يقال لها قبل ومن جهة يقال لها دبر. أما الضمير في قوله: {فلما رأى} وفي قوله: {قال إنه من كيدكن} فقيل: إنه للشاهد الذي هو ابن عمها كما ذكرنا أي إن قولك وهو ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا، أو إن هذا الأمر وهو الذي أفضى إلى هذه الريبة من عملكن: {إن كيدكن عظيم} قال بعض العلماء: أنا أخاف النساء أكثر مما أخاف الشيطان لأنه تعالى يقول: {إن كيد الشيطان كان ضعيفًا} [النساء: 76] وقال للنساء: {إن كيدكن عظيم} وأقول: لا شك أن القرآن كلام الله إلا أن هذا حكاية قول الشاهد فلا يثبت به ما ادعاه ذلك العالم ولو سلم فالمراد إن كيد الشيطان ضعيف بالنسبة إلى ما يريد الله تعالى إمضاءه وتنفيذه، وكيد النساء عظيم بالنسبة إلى كيد الرجال فإنهم يغلبنهم ويسلبن عقولهم إذا عرضن أنفسهن عليهم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «النساء حبائل الشيطان».
ثم قال الشاهد: {يوسف} أي يا يوسف فحذف حرف النداء: {أعرض عن هذا} الأمر واكتمه ولا تحدّث به: {واستغفري} يا امرأة: {لذنبك} والاستغفار إما من الزوج أو من الله تعالى لأنهم كانوا يثبتون الإله الأعظم ويجعلون الأصنام شفعاء ولهذا قال يوسف لصاحبه في السجن: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39]: {إنك كنت من الخاطئين} من المتعمدين للذنب. يقال: خطئ إذا أذنب متعمدًا والتذكير للتغليب. وقيل: الضمير في: {رأى} وفي: {قال} لزوج المرأة وأنه كان قليل الغيرة فلذلك اكتفى منها بالاستغفار قاله أبو بكر الأصم. {وقال نسوة} هو اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ولذلك حسن حذف التاء من فعله وقد تضم نونها.
قال الكلبي: هن أربع في مدينة مصر: إمرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب السجن، وزاد مقاتل امرأة الحاجب، والفتى الغلام الشاب والفتاة الجارية: {قد شغفها} أي خرق حبه شغاف قلبها والشغاف حجاب القلب، وقيل: جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب و: {حبًا} نصب على التمييز وحقيقة شغفه أصاب شغافه كما يقال: كبده إذا أصاب كبده وكذا قياس سائر الأعضاء. وقرئ بالعين المهملة أي أحرقها مع تلذذ من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران. وقال ابن الأنباري: هذا من الشغف وهو رؤوس الجبال أي ارتفع محبته إلى أعلى المواضع من قلبها. والضلال المبين الخطأ عن طريق الصواب. {فلما سمعت بمكرهن} اغتيابهن وسوء قالتهن فيها، وإنما حسن التعبير عن الاغتياب بالمكر لاشتراكهما في الإخفاء. وقيل: التمست منهن كتمان سرها فأفشينه فسمي مكرًا: {أرسلت إليهن} تدعوهن. وقيل: أردن بذلك أن يتوسلن إلى رؤية يوسف عليه السلام فلهذا سمي مكرًا. وقيل: كن أربعين. {وأعتدت} وهيأت: {لهن متكئًا} موضع اتكاء وأصله موتكئًا لأنه من توكأت أبدلت الواو تاء ثم أدغمت، والمراد هيأت لهن نمارق يتكئن عليها كعادة المترفهات كأنها قصدت بذلك تهويل يوسف عليه السلام من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن السكاكين توهمه أنهن يثبن عليه. وقيل: المتكأ مجلس الطعام لأنهن كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث على هيئة المتنعمات، ولذلك نهى أن يأكل الرجل متكئًا. وآتتهن السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن بها. وقيل: أراد بالمتكأ الطعام على سبيل الكناية لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له متكأ. وقال مجاهد: هو طعام يحتاج الى أن يقطع بالسكين لأن القاطع متكئ على المقطوع بآلة القطع وقرئ {متكًا} مضموم الميم ساكن التاء مقصورًا وهو الأترج: {فلما رأينه أكبرته} أعظمنه وهبن ذلك الجمال، وكان أحسن خلق الله إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان أملح. قيل: كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه وما كان أحد يستطيع وصفه ويرى تلألؤ وجهه على الجداران وقد ورث الجمال من جدته سارّة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء فقلت لجبرائيل: ما هذا؟ فقال: يوسف. فقيل: يا رسول الله كيف رأيته؟ قال: كالقمر ليلة البدر» وقال الأزهري: أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت. يقال: أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر بالحيض، ووجه حيضهن حينئذٍ بأن المرأة إذا فزعت أسقطت ولدها فحاضت، فالمراد حضن ودهشن. وقيل: أكبرنه لما رأين عليه من نور النبوة وسيماء الرسالة وآثار الخضوع والإخبات والأخلاق. الفاضله الملكية كعدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح فلذلك وقعت الهيبة والرعب في قلوبهن: {وقطعن أيديهن} أي جرحنها بأن لم يعرفن الفاكهة من اليد، أو بأن لم يفرقوا بين الجانب الحاد من السكين وبين مقابله فوقع الطرف الحاد في أيديهن وكفهن وحصل الاعتماد على ذلك الطرف فجرح الكف وهذا القول شديد الملاءمة لقولهن: {حاش لله} أي ننزهه عما يشينه من خصلة ذميمة: {إن هذا إلا ملك كريم} في السيرة والعفة والطهارة.
وأما قول زليخا: {فذلكن الذي لمتنني فيه} فإنما ينطبق على هذا التأويل من حيث إن الصورة الحسنة مع العفة الكاملة توجب حصول اليأس من الوصال وحصول الغرض المجازي وذلك يستتبع فرط الحيرة وزيادة العشق. وعلى القولين الأولين فالمعنى تنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله، كما أن قولهن: {حاش لله ما علمنا عليه} تعجب من قدرته على خلق عفيف مثله. قال صاحب الكشاف: {حاشا} كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء واللام في: {لله} لبيان من يبرأ وينزه وهي حرف من حروف الجر وضع موضع التنزيه والبراءة. وقال أبو البقاء: الجمهور على أنه هاهنا فعل لدخوله على حرف الجر وفاعله مضمر، وحذف الألف من آخره للتخفيف وكثرة دوره على الألسنة تقديره حاشى يوسف أي بعد عن المعصية لخشية الله وصار في حاشية أي ناحية. {ما هذا بشرًا} أعمال ما عمل ليس لغة حجازية: {إن هذا} أي ما هذا الشخص: {إلا ملك كريم} استدل بعضهم بالآية على أفضلية الملك كما مر في أول سورة البقرة قالوا: وإنما قلن ذلك لما ركز في العقول أن لا أحسن من صورة الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من صورة الشيطان. واعترض عليه بأنه لا مشابهة بين صورة الإنسان وصورة الملك. وأجيب بعد التسليم بتغيير المدعي وهو أنهن أردن المشابهة في الأخلاق الباطنة وبها يحصل المطلوب، وزيف بأن قول النساء لا يصلح للحجة، وفي الآية دلالة على أن اللوم انتفى لأنه لحقهن بنظرة واحدة يلحقها في مدة طويلة وأنظار كثيرة فلذلك: {قالت فذلكن الذي لمتنني فيه} وسئل هاهنا إن يوسف كان حاصرًا فلم أشارت بعبارة البعيد؟ وأجاب ابن الأنباري بأنها أشارت إليه بعد انصرافه من المجلس وهذا شيء يتعلق بالنقل. وأما علماء البيان فإنهم بنوا الأمر على أن يوسف حاضر وأجابوا بأنها لم تقل فهذا رفعًا لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به واستبعادًا لمحله، أو هو إشارة إلى المعنيّ بقولهن في المدينة عشقت عبدها الكنعاني كأنها قالت هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكن ثم لمتتني فيه يعني أنكن لم تصوّرنه قبل ذلك حق التصوير وإلا عذرتنني في الافتتان به. ولما أظهرت عذرها عند النسوة صرحت بحقيقة الحال فقالت: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} قال السدي: أي بعد حل السراويل: والذين يثبتون عصمة الأنبياء قالوا: إن: {استعصم} بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحرز الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها، وفيه شهادة من المرأة على أن يوسف ما صدر عنه أمر بخلاف الشرع والعقل أصلًا.
{ولئن لم يفعل ما آمره} قال في الكشاف: معناه الذي آمر به فحذف الجار كما في أمرتك الخير، أو ما مصدرية والضمير ليوسف أي أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه: {وليكونا من الصاغرين} هي نون التأكيد المخففة ولهذا تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف. والصغار الذل والهوان، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس جليل القدر مثل يوسف ثم إنه اجتمع على يوسف في هذه الحالة أنواع من المحن والفتن منها: أن زليخا كانت في غاية الحسن، ومنها أنها كانت ذات مال وثروة قد عزمت أن تبذل الكل ليوسف على تقدير أن يساعدها، ومنها أن النسوة اجتمعن عليه مرغبات ومخوفات، ومنها أنها كانت ذات قدرة ومكنة وكان خائفًا من شرها ومن إقدامها على قتله، ولا ريب أن نطاق عصمة البشرية يضيق عن بعض هذه الأسباب فضلًا عن كلها وعن أزيد منها ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى الله تعالى قائلًا: {رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} لأن السجن وإن كان مشقة فهي زائلة والذي يدعونه إليه وإن كان لذة إلا أنها عاجلة مستعقبة لخزي الدنيا وعذاب الآخرة: {وإلا تصرف عني كيدهن} بترجيح داعية الخير وعزوف النفس أو بمزيد الألطاف والعصمة: {أصب إليهن} والصبوة الميل إلى الهوى ومنها الصبا لأن النفوس تصبوا إلى روحها. {وأكن من الجاهلين} الذين لا يعملون بما يعلمون ولا يكون في علمهم فائدة، أو من السفهاء لأن الحكيم لا يفعل القبيح. ولما كان في قوله: {وإلا تصرف} معنى الدعاء وطلب الصرف قال سبحانه: {فاستجاب له ربه} ثم إن المرأة أخذت في الاحتيال وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس ويقول لهم في المجالس إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى ينسى الناس هذا الحديث فذلك قوله تعالى: {ثم بدا} أي ظهر: {لهم}
للعزيز ومن يليه أو له وحده والجمع على عادتهم في تعظيم الأشراف: {من بعد ما رأو الآيات} الدالة على براءة يوسف من شهادة الصبي واعتراف المرأة وشهادة النسوة له بالسيرة الملكية والعفة. وفاعل بدا مضمر أي ظهر لهم رأي أو سجنه وإنما حذف لدلالة ما يفسره عليه وهو: {ليسجننه} والقسم محذوف: {حتى حين} إلى زمان ممتد. عن أبن عباس: إلى زمان انقطاع القالة وما شاع في المدينة.
وعن الحسن: خمس سنين. وعن غيره سبع سنين. وعن مقاتل: أنه حبس اثنتي عشرة سنة. اهـ.